عقل الضميري: ضميرٌ رعى وعقلٌ وعى وجوفٌ امتد خليجا
عقل يرجح الكفة.. مفضال بلا التفاتة، صاحب عطاء وهو أيضاً صاحب «دوم زين» الرزين، لذا مؤلفه الأول ليس عنوان رواية فقط، إنما هو انعكاسات لروح (عقل الضميري) بجلاء ولا انجلاء، وتواضع بلا استعلاء، من القلائل الذين صنعوا سيرتهم في الأوساط العلمية والثقافية، من دون أن يبرز مناكف في طريقه، أو يصطف معادون يهتفون ضده! «يسقط عقل .. يسقط عقل» يُرجِح صدره الشمالي الكفة الجهات، تعود البوصلة بلا تردد، تُردد: عقل عقل! لذا عاش – حفظه الله – من دون أن يخسر كفة ورجح متجاوزًا المناكفات، وكسب جميع الجهات، وهو الأجدر بنيرونها.
هذا التنويري المضيء عقله، ساح الأمدية، والفرجات، يَبسطُها وَيسْجُرُها – ردحًا من الزمن – إلى ان طاوعت راغمة، وجثت تستهدي من شسَاعة و رحَابة وجهه، الجهات، أنّا ألقى وجهه يمّمته، فاستقرتتنشده حكمة «جوفه» واستقر مستجيبًا يتلو عليها آيات من التأريخ والنقوش المحفورة في «الجوف». حوارنا هذا مع رجل أبعد ما يكون عن الأضواء وهو الضوء.
نقدم هذا الملف كما لو كنا نحتفي أو نقدمه حول كائن لا يحتاج إلى إيضاح! وهو هكذا عقل, أما لماذا؟ وكيف.. فلا أعرف السبب رغم محاولاتي السابقة الفاشلة التي خضتها مع نفسي للبحث عن إجابات عن ذلك.
تحدث أصدقاؤه وزملاؤه ومحبوه بلغة الوجدان ليس للأيام الخوالي وطلائع فجر الذكريات معه، إنما تشكلت مقالاتهم وشهاداتهم التي كتبوها بحق عقل نافذة من مسالك النبالة، والعرفان لهذا الصدوق الصديق وتشكلت مجتمعة رسائل وجد بين أصدقاء عزموا ومضوا في سيرهم – حفظهم الله – يشتركون بجبلات مازتهم (أدبًا وثقافة وأخلاقًا فاضلة..) ما اقتسموها يومًا ضيزًا بينهم! إنما فاضوا كيلًا بها في الجوف والأسواق.
* في حياتنا اليومية – عادة – تشغلنا التفاصيل دون الواقع والتأمّل طويلًا فيه أو في معنى الوجود والثابت والمتغيّر. أشياء كثيرة تمضي لا نلحظها ونستعين بالذاكرة فتسعفنا ولا تسعفنا أحياناً. وربما جاز القول – برأي بعض النقاد وجود نمطين للزمن (تتابعي/ زمن منبثق تزامني) كما عند مارسيل بروست، وجيمس جويس، وهنري جيمس، وتوماس وولف. هذا «الزمن الضائع» ما يلبث يفرُّ كما الماء من أصابعنا.- حول هذه التوطئة وما درج على لسان ميلان كونديرا «نحن نعيش نصف حياة فقط أما النصف الآخر فذاكرة» أين نجد مجالات ذواكر الضميري وتشكلاتها الناجمة خيالاتها وإبداعها؟
في مسارنا المبتدئ بزواج الأبوين والمنتهي بصراع الورثة، ليست الحياة نصف متاحة للعيش كما ذكر عن ميلان كونديرا، ذاك محظوظ بتلك الغنيمة، إنها أقسى وأقصر في متعتها وأُنسها، وبنفس الوقت أطول في مكابدتها ومعاناتها للكثيرين من الأسوياء.
لعبت الجغرافيا في تكويني الدور الأبرز، مع الشعور الذي لا يفتر بمطاردة الوعي بعدم الاكتمال، وهو ما يتمم الباقي نكدًا أو اندفاعًا وتأملا، وكما تعلم أن المشاكل لا تكمن في تجنب المعاناة، بل في طريقة المعاناة، الفقر الوجع العجز ..الخ, وجعل الحياة معها ممكنة أو في حدودها المحتملة.
أبناء الأثرياء في الجوف
وعودة للتكوين المبكر، كانت مكتبة الثقافة العامة بالجوف والتي أسسها الأمير عبدالرحمن السديري, رحمه الله بجوار مدرستنا الابتدائية، وكان ذلك من المغريات والفرص التي خلقتها الجغرافيا، ووجود الطلبة في تلك المدرسة من أبناء الأثرياء والمسؤولين بالأجهزة الحكومية والميسورة أحوالهم والذين ينعمون بالقدوم للمدرسة بالسيارة والشراء من المقصف والمشاركة بالرحلات المدرسية – أقول – وجودهم بنفس الصف وفِي هذه المرحلة ذات الحساسية المفرطة بالمقارنة والشعور بالموجود واللا موجود، كان ذلك المتمم الآخر في التحدي أو الذي قلت عنه المعاناة بتكوين نظرة مبكرة للحياة بفرصها وقسوتها، وكان ذاك هو جرس الإنذار الذي لم يهدأ أو يتوقف فترة طويلة من حياتي بالمحاولة المستمرة والإصرار على تكوينٍ أفضل وتحدٍ لا يلين لكل عائق. محاولة استكشاف الإمكانات والتوجه والحلم ليست مريحة، راسلت في مرحلة مبكرة جداً إذاعات التبشير في قبرص، لست أدري لماذا ؟ صدفة سمعتها بالإذاعة من «مونتي كارلو» أغراني العنوان، المخلّص .. الشفقة .. استمعت كثيراً لبرامج ساعة الإصلاح تلك وللموسيقى «الأوبرالية» التي تذاع بعدها والتي تخيفني بأصواتها المتفجرة بكلام لا أفهمه ولا أعرف هل هو شأن ديني أم طربي أم إنذار بعقوبة، حتى أنه لذلك الغناء يعود الفضل في الانقطاع عن تلك المواعظ أو الخرافات خوفًا وانزعاجًا من النبرات العالية والمرعبة جداً والتي لابد بمقارنتها مع بساطة وهدوء صوت أبي يرحمه الله بعد صعوده على جذع نخلة ليؤذن للصلاة كل يوم في مسجد حارتنا، ومع هذا لم تتوقف رحلة البحث فاختلطت واستمعت وقرأت لمتمردين ومعتوهين ورائعين، وبكيت كثيرًا بين يدي الله حائرا وباحثًا عن طوق نجاة. ولمّا يقترب الوعي حدود وملامح بشرى طمأنينة تبدأ مخاوف المسؤولية والأسرة وحتى عقدة العقاب وسوء الظن على مجرّد الوجود.
هكذا يبقى الصراع ويتصاعد، فكم يكون نصيبك من عمرك المسجل في شهادة الوفاة ؟ سؤال للسيد ميلان.
روايتي القادمة «ثانوية موسى»
– «قد تمر رواياتي بأربعة مسودات كاملة، لكن كل جملة أو تعبير أو فقرة تخضع لمراجعات عديدة قبل الوصول إلى أول مرحلة المسودة الكاملة. ماذا أعني بالعديد؟ 10 و20 و30 مسودة، حتى تصبح التغييرات دقيقة، يرى القراء المنتج النهائي وقد يتصورون أن العمل كان سهل الكتابة، أليس كذلك؟». أعتقد أن ما قاله «برناردين إيفاريستو» يجعلنا نتفق لضبط سُعار التأليف لإلحاق الآخر بتابع ورابع.. قطعًا ما لم يعلمه إيفاريستو أن صاحب دوم زين, لم يمرر حتى الآن زينًا آخر؟
الكتاب الشقيق لـ«دوم زين» أو الزين الآخر قد جاء قبل أربعة أعوام، بعد الكثير من المسودات التي تمثِّل في ظني شهادة الجودة ورضا الكاتب عن نفسه، وأحياناً بسبب الملل من طول النظر، دفعته لدار النشر وكانت رواية بعنوان «ثانوية موسى»، فيها الكثير من الحوار والأسئلة والصراع والمكر والغايات المبطنة وسوء الظن والإخلاص والقهر، وكل الذي يرتبط بالوجود المعاش لفئات وشرائح عديدة بالمجتمع، لكن تلك الثمرة تعسّرت ولادتها كثيراً بسببهم وبسببي وللجائحة وكورونا دور بذلك التعثر.
هم – دار النشر – قالوا قصيرة ثم مطوّلة وأنا رغبت التأكد والمراجعة كقارئ لا بصفتي كاتبًا لها، ولمّا تأخرت في تلك المراجعة حلّت كورونا من غير ترحيب، ود خلت كل قرية بالعالم، فأصبحت معلومة أخبارها ومملّة جداً، وللمصادفة أن الرواية تتضمن في أحداثها إصابة أحد شخوصها بهذا الفايروس، ووظفت تلك الإصابة وتأثيراتها في السرد والحبكة، إضافة إلى دعوة لتعليم اللغة الصينية، فماذا عساي أقول بعد أن كانت تلك الإشارات ( كورونا ودعوة تعليم اللغة) فرصة وتميزًا ؟ أرى أو أخشى أنها قد تكون نقطة ضعف، مما جعلني مترددًا بالطباعة وبالتعديل أو الإبقاء على أحداثها كما كانت، لم أعمل شيئاً بذلك حتى الآن. لعلي أكتب تنويهًا بالمقدمة لتاريخ كتابة النص لإقناع القارئ ودفعها للمطبعة لترى النور قريبًا.
– فترة تعرشكم وقيادتكم واحدة من أبرز أساطين الفكر ومعاقل التنوير في الجوف «مركز عبدالرحمن السديري الثقافي» العديد من الحكايا لإدارتكم المشهد, أشاد البعض ويرى آخرون أنه كان لديك الكثير لتقدمه. أكان – للمرحلة حينها – دور يشار إليه أم أن هذا هو الواقع بمساحاته ووجهاته إذ يمكن القول إنك راض عن منجزاتك في المشهد الجوفي؟
تجربتي بإدارة (مركز عبدالرحمن السديري الثقافي) بالجوف, لخمسة أعوام أو تزيد، كانت رحلة جميلة مع هذا الصرح والمعْلَم الكبير والنافذة الواسعة التي وضعت اسم المنطقة على خارطة الثقافة بالوطن العربي من خلال إصدارته المميزة وندواته وبعثاته الدراسية ومكتبته العريقة التي بدأت معها معرفتي بالكتاب مذ كنت طالباً ومن خلالها كما أشرت في بداية حديثي لفرصة الجغرافيا.
حواجز الرجال والنساء
كان بودّي من خلال المركز كعمل نوعي، التركيز على الترجمة من اللغات الأخرى للعربية، فهذا المجال ليس مطروقًا بما يستحق، وكان بودّي أيضا إزالة حاجز المكتبة بين قسمي الرجال والنساء، وقد بحثته مع الدكتور سلمان السديري في إحدى المقابلات لتتسع المساحة المتاحة وتكثر العناوين بدل التكرار المكلف في الجهتين، مع المحافظة على خصوصيات ومناطق الجلوس والقراءة لكل جنس، كما أتذكر محاولة التوسع بالكتب العلمية في مجالات الطب والصيدلة خدمة لطلبة الجامعة والباحثين، وإنشاء مكتبة الحديقة المفتوحة ونادي القراءة، وكذلك المكتبة المتنقلة لترتاد مناطق جلوس وسهرات الشباب في بعض الحدائق العامة بالمنطقة، ولازلت أحتفظ بكل المحبة والولاء لهذا المركز الرائع وأرجو له كل نجاح.
– أخيرًا نشكر استجابتك إجراء هذا الحوار – كتب المحرر: قبل أن نودعك نعلم أنك متفاجئ وستسعد في الوقت نفسه, مثل سعادنتا باستضافتك بهذا (الملف المصاحب) الذي شارك فيه عدد من مثقفي منطقة الجوف وجهت لهم الدعوات ليكتبوا شهادات ورؤى حول تجربتك الغنية واستجابوا مشكورين – بودنا لو تحدثنا عن تجربتك القرائية والمصادر والمواقف في حياة ضيفنا الكريم الأستاذ عقل الضميري؟
في مسألة القراءة والمصادر, كان – لطبيعة عملي السابق – أن أتاح فرصة السفر كثيراً, وهي النافذة الكبيرة للحصول على معظم موجودات مكتبتي بمختلف مجالاتها. وهي متنوعة جداً في محتوياتها لدرجة لا تستطيع معها تصنيف توجه صاحبها، وفِي السنوات الأخيرة توفر الكتاب الرقمي وتيسر الحصول عليه بسرعة من أي مكان بالعالم وهذا من فضل الله ومن نتائج العلوم التطبيقية الرائعة في خدمة البشرية.
وهذا الأمر الذي ساعد بالانتشار وقضى على معظم الإشكالات التي كان القارئ يواجهها عندما يأتي من الخارج ببعض الكتب وتعرضه للتأخير أو مصادرة بعضها وحرمانه منها، وفقط لمجرد أنها قد لا تعجب المراقب سواء كان عنوان الكتاب أو اسم مؤلفه.
كتب تلوث الفكر
أذكر مرّة «أحد المراقبين» الإعلاميين بالمطار, أخذ ينصحني بعدم القراءة لعدد من المؤلفين وذكرهم، وكان ذلك بعد أن وجد معي بعض الكتب، فسألته عن السبب؟ فأجاب بأن كتبهم تلّوث الفكر! وتحاورت معه إلى أن سألته هل قرأت كتبهم؟ فأجاب مؤكدا بنعم وبثقة كبيرة، فقلت له ومع ذلك ها أنت تقوم بعملك دون تأثير منهم ولا استطاعوا تلويثك؟ فلمَ نحن فقط؟ قال اذهب الله يكفينا شرّك. ومراقب آخر بعد إطالته بفحص أشرطة الفيديو التعليمية للأطفال التي كنت أحرص على توفيرها لأولادي عندما كانوا صغارا، اعتذر لتأخيره لي بالقول أن الأطفال أشغلونا بطلباتهم واهتماماتهم المستجدة، فقلت له بشيء من العتب، أما أنا فلا بل أنكم أنتم الذين أشغلتونا – وتقبّل الموقف والتعليق مع الاعتذار- وغادرت مبتسمًا. أظن أني كسبت تعاطفه لصالح الكتاب والقرّا
” محمد عليل الرويلي.