دار الوهد
رائحة التمر المكنوز في الخوابي تفوح كالبخور ، أوعية الحنطة والتمّن ، أكواز القرع المجوّفة والمملؤة بالدبس وبعضها بالسمن وقدور نحاسية بأغطية ثقيلة تمتلىء بالودك ( شحم سنام الابل أو ليّة الخروف ) وأشياء أخرى لا تظهر بوضوح لظلمة الدار الخالية من النوافذ ، وذات الباب الأكثر جودة من بين جميع أبواب غرف المنزل .
مفتاح ذلك الباب لا يقع من عصابة الجدّة شفاقة – أم أبي – يفتح مرة باليوم وفِي الأغلب يوماً بعد يوم .
شخصيتها تحمل صفات متناقضة ، تبتسم لأبي عندما تحادثه منفردًا وأحيانا كذلك تفعل لبعض أحفادها ، لكنها شرسة سلطوية بذيئة اللسان تجاه أمي ، وحتى دون سبب تطلق سيل التحقير والشتائم كل صباح وقبل الغياب .
أظن أمي تستحق جائزة نوبل بفرع أهوال الصبر .. يا لها من امرأة كادحة !
إن استيقظت أمي مبكرًا يُفسّر هذا لإظهار الجدّة بمظهر الكسل وغير الاهتمام لتأخرها بالنوم ، وإن استيقظت الجدّة قبلها ، فجرعة التحقير الصباحية تكون مبرّرة ووجيهة ، فمن ينام حتى الضحى العالي ؟ وهذا العالي كان بين الخامسة والسادسة قبيل شروق الشمس .
أبي سيدخل الجنة بعد لومٍ ما ، يعتصر ألمًا .. لكنه لم يستطع مواجهة تعسف جدتي يومًا واحدًا ولا انتصر لزوجته مرّة .. لهذا فإنه يستحق اللوم ، وقد يؤخذ من حسناته لتُهدى لأمي ، أما استحقاقه الجنة فلبرّه وصبره المذهل على قسوة وصلف جدتي .
هو وحده من يملك حق طلب مفتاح الوهد ، لكن ذلك للتوريد والتزويد فقط ، أما الصرف فهو من حقوق السيادة المطلقة للجدّة وفق المادة الأولى الفقرة (ب) من الدستور العائلي ، وقد تستغربون ماهي الفقرة (أ) التي تسبق ذلك الحق !!
إنها حق أمر طلاق زوجات الأبناء ودون إبداء الأسباب .. تفعله الجدّة متى شاءت .
نمرّ نحن الأطفال بحذر شديد أمام الوهد أو الخزنة محكمة الحراسة بالأقفال والرقابة لوجود ثعبان مقيم بتلك الدار ، ذلك الرعب الذي يجعلنا نسرع الخطى بمجرد الاقتراب من حدودها ، ولشدّ ما يدهشنا قدرة جدتي الدخول والبقاء وحيدة بها والخروج سالمة من تلك الأفعى التي شاهدها معظم اخوتي .. تُدلي رأسها بين كواسر خشب الأثل وجريد النخيل المكوِّن لسقف الدار .. يا له من رعب .. كيف تجرؤ عليه جدتي !
وما زادني تفسير أمي لشجاعة جدتي سوى هلعًا على هلع عندما قالت : هذه الافعى ابنة جدتكم ، تجلس معها وتطعمها كل يوم .
استغفرتُ لأمي كثيرًا عن تلك الوصمة البشعة لجدتي والتي رسخت بذهني زمنًا طويلا ، حتى قرأت عن المقاومة أو المكافحة الطبيعية ، إذ تستفيد جدتي من تلك الحيّة – الأفعى – بتخليص الوهد من القوارض والسحالي وأنها لم تكن سامّة ، وهي منتشرة في معظم البيوت القديمة .
لكن وللأمانة كان لجدتي حسنات وحكمة كبيرة في ضبط إدارة مخازن المنزل ، والتي تشمل دار العلف للماعز ومخزن الحطب ، وقد تنازلت طواعية ودون نقاش للوالد عن شؤون القهوة والشاي الخاصة بمجلس الرجال ، أما السكّر فللغرابة .. لم يصنّف في مرتبة الشاي والقهوة وإن كانت تجود به دون تردّد فور قدوم الضيوف .
ومن حسنات جدتي أنها بعد تعبئة وعاء التمر الخاص بمجلس الرجال أو للعائلة تدعونا نحن الأطفال كي نلحس الدبس العالق بيدها اليمنى ، ولَم تتذوق شيئاً من موجودات المخزن بمفردها ولا خصّت نفسها بشيء منه مطلقاً . وأذكر من الطرائف انها ضربت أخي عمير عندما حاول لعق شيء منه كان على يدها اليسرى وعنّفته بالقول يا طفس .. وقد التصقت به تلك الكلمة مدة طويلة.. أين الطفس .. قم يا طفس .. وحتى بعدما نجح بتفوق .. يثني عليه والدي ويعاتبنا على التقصير .. أحسنكم ولدي الطفس ..
مرضت جدتي بعد أن عُمِّرت وعجزت فانتقلت لرحمة الله ، لكن أمي لم تستطع مسامحتها ولَم تحظَ جدتي منها بدمعة ولا بلحظة حزن ..
كان أخي مبارك وأخي صالح قد تزوجا معاً قبل سنتين من وفاة جدتي ، وكانت زوجتيهما ابنتا خالي سلطان شقيق والدتي ، وهي التي اختارتهما لإخوتي وحظيت كل منهما برعاية ومحبة كبيرة من والدتي طوال هاتين السنتين ، خاصة وانهما انجبتا صبيين أدخلا السرور والبهجة العظيمة علينا جميعاً..
انتقلت أمانة دار الوهد بشكل سلس لوالدتي ، ورغم أن الأسرة انتقلت للسكن ببيت جديد ومسلح ومقسم لأربعة شقق بتمويل من الصندوق العقاري ، لكن الوهد بقي بنفس اللوائح وإن تغيرت المواد المخزنة وخلا من القوارض والثعابين ..
تغيرت تصرفات أمي مع زوجات أخوتي – بنات أخيها – وزادت على جدتي في مراقبة بعض الأصناف التي لم تكن لدينا وقت الادارة السابقة (…)كالصابون وقوارير البيبسي والميرندا .. تصرف يوماً بيبسي ويومًا أصفر كما تقول .. بل حاولت اضافة القرطاسية ومستلزمات مدارس الأطفال للمخزن ..
يضحك ابني كثيراً كلما وجده مغلقًا ، وينادي .. أعطونا مفتاح البنك المركزي ..
ومازال الوهد موجودًا ، لكنه أصبح بلا أقفال وبإدارة خارجية تم استقدامها من الشرق الأقصى كحال معظم البيوت .
آه .. ماذا لو تعرف جدتي ؟؟
****
عقل الضميري
يوليو 2021
3 أفكار عن “دار الوهد .. قصة قصيرة.”
كم انت قلما سيالا ابا ياسر
رائع أ عقل أستمتعت حقا وانا أتنقل بين أرجاء البيت القديم وأراقب بحذر الوهد يالها من اشراقات على الماضي لا أقول الجميل ولكنه الماضي الذي نحبه
جميل جدا الوصف والانتقال لتلك الحقبه الزمنيه الجميله بكل مافيها .. الا ليت الرمن يرجع