قثة قصيرة
ترقية فواز
غادر مبتهجًا وسط دهشة زملائه، يتساءلون كيف يقبل تلك الترقية التي ليست سوى نفي إلى قرية تتجاوز الألف نسمة بالكاد، لا شوارع مضاءة ولا مراكز تجارية كبيرة ولا حدائق ولا فنادق، كيف من غير مطاعم ومقاهٍ أو نوادٍ، لا سيدات جائلات بسيارة ويستحيل أن تراهن بمقهى، إشارة الإنترنت ضعيفة.. لا لا.
إنه الجنون..
يردُّ أحدهم.. بل هو البخل لا يريد الإنفاق حتى على نفسه.. فقط ليجمع نقودًا لا مجال لصرفها هناك.
…
رأوه يجمع أشياءه القليلة، ويترك لهم آلة صنع القهوة قائلاً.. هي لكم فحافظوا عليها، قد أعود لإنجاز مهمة قصيرة هنا في الإدارة العامة فأشرب فنجانًا دون انتظار دعوة من أحد وبلا تردد.
…
يا الله سأهرب من هذا الإهمال واللامبالاة.
عشرُ سنين دون دعوة واحدة!!
ومنزلي لم يطرقه جار ولا زائر!!
ما لهذه الأشباح الكثيفة لا تتجسد يوماً بشخصية زميل أو إنسان أسعد باستقباله؟ ما لهذا الجرس صامت لا يشدو ولا ينهق سوى مرة بالشهر.. يفعلها وحده محصل الإيجارات؟
ضجيج موحش في شوارعها ودوران معتاد في مساحة محدودة، بين مكتب كئيب وبقالة ضخمة تدلفها بلا استقبال ولا سؤال، تضع كل حاجتك وأغراضك بعربة ملطخة بكل فيروسات العالم وتحاسب عنها دون وداع ولا عرض خدمة لزبون دائم!
وفي المسجد.. تحيطك نظرات الشكّ والحذر، من هو؟ أين يعمل لِمَ يتأخر أحياناًً وأين يغيب؟ بل إنه لم يستطع نسيان كيف تعرّض للنّهر مرة من المؤذن عندما جلس خلف الإمام – في الروضة – هذا المكان للشيخ سليمان.. اجلس على طَرف.. صلِّ هناك!
…
يا لهذه المدينة البائسة، كم أنتِ مملّة ومتعالية، ما هذا الشموخ الزائف!!؟
علامَ الاستكبار؟
الترقيات التي تجلبك للعمل هنا، فليبدّلوا تسميتها إلى عذابات أو حتى ليقولوا مبروك حصلت على فرصة احتقار!!
والترقية خارجها.. لِمَ لا تكون الهجرة والهروب؟ بل هي النجاة.
…
ما إن حطّت راحلته المستأجرة بعفشه وهو العازب الذي لا يحتاج الكثير وأثاث منزله البسيط في مقر عمله الجديد في تلك القرية المنسيّة والآمنة من عتاة أهل المدن وصلفهم، حتى صعد إليها ثلاثة أشقاء ينقلون الأثاث قطعة قطعة بكل الحرص والترحيب الذي أبكاه وأعجزه عن التعبير.. أين أضع هذه القطعة يا عم؟ وهذه الستارة وهذا الكرسي وو..
أشكر لكم أنا سأرتبها لاحقاً، برجاء وضعها في الصالة وهذا يكفي.. بارك الله بكم.
لا لا والله يا عم، هذا أخونا خلف ستعجبك معرفته بالديكور.. هو مهندس القرية.. ويتضاحكون..
فقط قل لنا أين؟.. أو هل توافق؟ لماذا لا ترتاح وتترك لنا المهمة كاملة، وإذا لم تعجبك سنعيدها كما تحب؟
ويعلّق خلف على كلام أخوية.. لا لا.. بل أنا أكبر من مهندس.. أنا نجار القرية.. وتعلو الضحكات ويزداد الجو مرحًا.
يا إلهي!! أين أنا!؟
يا حمد.. أوصل العم للمجلس فالوالد ينتظره للقهوة، وعد إلينا لنكمل العمل قبل صلاة العصر.
هذه المرّة بكى بنحيب واضح، تجمّع عليه الإخوة.. ما بك يا عم؟ هل تحسّ وجعًا، هل أغضبك أحد؟؟
أخبرنا وسنقدم كل ما تريد، نرجوك.
لا أبداً يا إخواني، فقط أنا لا أملك ما يكفي لمكافأتكم.
ماذا!!؟ يا رجل من طلب مالاً أو مكافأة!؟
هل تحتاج إلى نقود؟
يا سعد – يقول الأخوان – يبدو أنه يمرّ بضائقة.. اذهب للبقالة واحضر ما يلزم للثلاجة الآن.
يا ضيفنا بعد قليل سيكون مطبخك وثلاجتك مليئة بكل شيء، نرجوك أن تهدأ، ولا تنشغل بهذه المسألة..
لكن لماذا لم تذهب إلى بيتنا حتى الآن؟ الوالد اتصل مرتين يسأل عنك.
تدري يا عم؟
يقول بسرعة ادعوه ليأتي قبل حضور جارنا لأنه سيخطفك منه!
يا ربي! يا إلهي!
…
وهؤلاء الشباب بكل الفرح ينهون مهمة النقل والتركيب ووضع الأطعمة بالثلاجة، وتنظيف الشقة.
قبيل إقفالها جاءت أختهم الصغيرة بمبخرة الطيب.. تقول أمي: بخّروا البيت واقرؤوا أي الكرسي والمعوذتين، واتركوا البخور الفائض بشقة الضيف.
بعد الاستقبال والقهوة استأذن فواز بالانصراف ليرى أوضاع ترتيب منزله الجديد واستكمال ما يلزم.
إلى أين؟ يسأل أبو حمد، وهل يعقل هذا؟ والله لن تخرج قبل الغداء معنا.
كثر الله خيرك يا عم، أشكر لك ما قصرتوا أنت والأبناء، أرجوك اسمح لي.
يا رجل اقعد اقعد بس اقعد.
حق الضيف هذا غصب علينا، ولاحقًا.. بهواك.
لم يصدق ولَم يستوعب فواز كل ما جرى.
…
بعد أسبوع وهو لم يطبخ في منزله وجبة واحدة إدّعى أنه سيغيب في مهمة لبضعة أيام، لم يسألوه عنها، فقط تمنوا له التوفيق وأن يشرفهم بزيارة بعد العودة سالمًا.
مكث في بيته لم يخرج محاولاً استيعاب هذا المشهد منذ وصوله ومقارناً حالته بما كانت في المدينة العصيّة.
سأخرج متنكرًا للبقالة الأخرى بالقرية والبعيدة قليلاً عن منزلي لأرى الوجه الآخر، عندما لا أكون جارًا لأحدهم هناك ولمّا يعرفني أحدهم بعد.
جاء إليها ماشيًا واشترى بضعة أشياء ليست بالثقيلة جداً، وضعها في سلّته وغادر.. بعد مسافة قصيرة عاد للبقالة واشترى علبة ماء كبيرة وحملها على كتفه ومضى عائدًا إلى بيته راجلاً.
خطوات قليلة فإذا بسيارة تنعطف من الاتجاه المقابل لتقف بجواره يدعوه قائدها للركوب لإيصاله إلى منزله، قائلاً هذه الأغراض ثقيلة عليك يا عم..
أبداً أشكر لك وبيتي قريب لا داعي لتعطيلك.. رأيتك تغير اتجاهك..
لا والله لن تعطلني، أرجوك لا تحرمني فرصة خدمتك يا عم.
يا الله! هل ولدت من جديد؟ هل هؤلاء ملائكة؟
…
لم يشعر بما يدور حوله إلا وشابٌّ آخر يتناول علبه الماء من كتفه ويدعوه للركوب.. أنا طريقي باتجاه منزلك فلا تقلق أنت في قرية..
يا الله ما أجمل الترقية عندما تكون شمالاً.. هكذا قال فواز وردّد وبكى.
* الاستاذ/عقل الضميري
= الجزيرة الثقافية.