آفاق عربية بلا حدود

صحيفة الافق العربي الالكترونية
-- رقم الترخيص 2020/410 --

الكويت .. الي في خاطري

الكويت التي في خاطري..

من المفارقات أن للكويت علي أفضالا عدة، رغم أني لم أتشرف بزيارتها، والتعرف عليها عن قرب، كما حدث لي مع بلدان مختلفة عديدة من حولها.
كانت الكويت أول تجربة تتشكل أمام عيني، عبر الإعلام الرصين والواعي، والنادر في عالم عربي تمزقه الإيديولوجيا والصراعات والحزازات، نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وأنا بعدُ غر صغير، يحبو في عالم القراءة وفك الحرف.
كانت مجلة “العربي” ذائعة الصيت، أول مجلة عربية تقع عليها عيني، في تلك السنوات البعيدة، في يوم خريفي ماطر من عام ثمانين، ويومها اكتشفت أن للعربية مجلاتها، بعد أن كانت عيني لا ترى سوى مطبوعات فرنسية، في موريتانيا، التي كانت حينها ترسف في أغلال الفرانكفونية بتوجس وحيرة.
كان العدد الذي وقع في يدي ذلك اليوم، يتصدره، كما تتابع وتتزاحم الآن صوره في ذاكرتي، استطلاع ضاف عن مضيق هرمز..
كان الاستطلاع من زاوية الصور البحتة، خلابا بكل ما في الكلمة من معنى، بالنظر إلى مشاهد الحياة الحافلة حول هذا المضيق، الذي سأعرف لاحقا أنه من أهم الممرات المائية في العالم، وأنشطها بحركة سفن الشحن العملاقة، ببيئته وجغرافيته واختلاف أصول السكان الذين يعيشون من حوله، حيث يقع عند ملتقى مياه الخليج والمحيط الهندي وخليج عمان، وتتقابل من جهاته المختلفة الكويت والعراق والبحرين وعمان وإيران.
وفوق كل ذلك هو ملتقى حضارات وثقافات شرقية متعددة تعانقت من حوله عبر قرون مديدة.
وتلك كانت بداية علاقة بمجلة “العربي” ستمتد بحمد الله، إلى اليوم، مازلت أحافظ عليها رغم طغيان الوسائط الجديدة، وما زال البعض إلى اليوم من الخاصة في البيت، يتندر على وفائي لهذه المجلة، التي لا تنشر سوى “المطولات”، ويتساءل عن سر علاقتي بها، فلا أكاد أرى منها عددا، إلا امتدت يدي إليه لا شعوريا، وأجدني أتحسسه بحنو واهتمام لافت.
ثم سأكتشف لاحقا مجلة كويتية رائدة أخرى، هي مجلة المجتمع، كان لها دور كبير في فتح عيني على مجالات معرفية أخرى، زادت شغفي بالمطالعة والقراءة.
وسيكون من محاسن الصدف، أن تطل علي الكويت بعد ذلك من الشاشة الصغيرة، بعد ما اكتشفتها من خلال المجلات، فمع افتتاح التلفزيون الموريتاني أوساط الثمانينات، كانت الدراما الكويتية حاضرة في مسطرة برامج القناة الوليدة.
وما زلت مثل كثير من متابعي القناة في تلك الفترة، أذكر يوميات وأحداث مسلسل “خرج ولم يعد”، وشخصياته المميزة غنيمة ودلال وأبو الريش، والتي كانت تفاعلاتها على الشاشة، تشغل حيزا كبيرا من أحاديث الكبار والصغار، ممن يستمرون كل ليلة لمتابعة السهرة على التلفزيون.
كان الناس يجدون في أحداث المسلسل وبيئته، شيئا شبيها بمجتمعهم المحافظ، الذي تطل عليه تطورات الحياة ومتغيراتها، أو ما سيطلق عليه لاحقا العولمة.
وسيكون للكويت علي فضل آخر، لا يقل أهمية في حياتي الشخصية، ومستقبلي المهني، فقد دفعتني وقائع احتلالها في ثاني أيام شهر أغسطس عام تسعين، من قبل جيش صدام حسين، لأن أتوجه نحو الإعلام وأدرسه.
فقد كانت صور ذلك الخريف العربي الساخن، حاسمة في اختياري مهنة الصحافة، وأنا أتابع مشدوها في تلك الأيام الصاخبة المشحونة، تطورات واحدة من أعقد الأزمات السياسية التي شهدها العالم، منذ الحرب العالمية الثانية، بعد ما احتل الجار الكبير جاره الأصغر، هكذا بكل بساطة، دون حاجة لكثير من التبرير والحجج، مما قد يتبادر، لمن سمع محاولة شطب دولة مستقلة ذات سيادة ووجود واقعي من الخريطة.
كانت تطورات القضية، تملأ وسائل الإعلام المتاحة في ذلك الحين، كما تشغل الناس في كل مكان، في المنازل ومواقع العمل، وفي وسائل النقل وفي الشارع
وسط هذه الأجواء المشحونة، وأنا أتابع تدفق الأخبار من الكويت والعراق، وكبرى عواصم العالم ومدنه المؤثرة، عاودني حنين قديم للإعلام، وتخيلت نفسي للحظات، أغطي واحدا من تلك المؤتمرات التي تعددت في مختلف العواصم في تلك الأيام، في محاولة لتغليب الحل السياسي وتجنب لغة القوة..
هذه ملامح من صلة شخصية بالكويت، لا تقل أهمية عن الوشائج القائمة بين بلدي وبلاد آل الصباح، التي واكبت تبلور شخصية موريتانيا المستقلة، وقدمتها للعالم العربي، منذ سنوات الاستقلال الأولى.
ولا غرابة أن يكون اللقب الأثير لدى الموريتانيين اليوم، “بلد المليون شاعر” قد جاء من الكويت، على صهوة استطلاع رائق، أنجزته مجلة “العربي” الكويتية أواسط الستينات، عن هذا البلد المستقل حديثا حينها، مبشرة العرب بشروق شمس عربية جديدة، من أقصى مغرب الرقعة العربية هناك من صحراء الملثمين ومن ربوع شنقيط البعيدة.
و ستتعزز هذه الصلات سياسيا واقتصاديا واستثماريا، خاصة بعد الزيارة التاريخية التي قام بها المغفور له الشيخ صباح السالم الصباح، أمير دولة الكويت، في منتصف السبعينات إلى موريتانيا، مدشنا بداية تعاون متميز وترابط أخوي ظل متواصلا حتى اليوم.
وفي هذا الإطار استقبلت مؤسسات التعليم والتكوين الكويتية، في السبعينيات، عشرات الطلاب والمتدربين الموريتانيين من ذوي الثقافة التقليدية، كان لهم دور كبير في فك الحصار الذي كانت تفرضه ثقافة المستعمر آنذاك على غالبية الموريتانيين ممن تقتصر دراستهم في ذلك الوقت على المدارس التقليدية أي المحاظر.
وكانت الكويت دائما حاضرة بقوة وسخاء في محافظ التمويل الخاصة بالبرامج التنموية، وإنشاء البنى التحتية في موريتانيا سواء عبر صناديقها الخاصة، أو في إطار هيئات تمويل واستثمار متعددة الأطراف.
ومَنْ مِنَ الموريتانيين، لم يسمع بمسميات من قبيل، مستشفى صباح في قلب نواكشوط، أو فندق صباح على شاطئ الأطلسي، أو مستشفى تجكجة، هناك فوق هضبة تكانت الوعرة وسط موريتانيا، الذي بُني بتمويل كويتي، وأقامت به بعثة طبية عربية، ترعاها دولة الكويت لعدة عقود، استفاد من خدماتها سكان مناطق واسعة في الشمال والوسط الموريتاني.
ويذكر الموريتانيون باعتزاز وتقدير، إصرار أمير البلاد السابق المرحوم الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح، رغم سنه  ووضعه الصحي الخاص، على تجشم السفر وقطع المسافات البعيدة، لحضور قمة نواكشوط التي تغيب عنها عدد كبير من القادة العرب، قبل سنوات قليلة.
ولا ننسى تجربة الكويت التحديثية الجارية على ضفاف الخليج، وأصداءها الإيجابية التي كانت تقطع المسافات البعيدة، لتلقى اهتماما واحتفاء هنا على شاطئ الأطلسي، فتقدم صورا ومشاهد رائعة من تميز هذا البلد الخاص، بحيوية حياته النيابية، وتجربته الإعلامية الرصينة، وثراء واتساع نشاطه الثقافي والفكري.
قبل سنوات، قدم لي دبلوماسي دولي، عمل سنوات بمنطقة الخليج، بعض أسرار هذه الخلطة الغريبة في منطقة الخليج المحافظة، وقال في انبهار:
“الكويت كانت دائما مختلفة.. فالأمير والعائلة والحكومة، كلهم يتفاعلون بإيجابية مع البرلمان، بشكل لافت، بالنسبة لمنطقة مثل الخليج، وتُكمل تفاصيل المشهد المتميز، الصحافة والديوانيات، بما تتمتع به من سقف حرية ومرونة، وهو ما يجعل الكويت “ديرة” مختلفة..”
وقد زادني شغفا بهذه “الديرة” المتميزة هذا الوصف الرائع لتجربة الكويت، التي يعز علي أني أتابعها عن بعد، دون التمكن من رؤيتها عن قرب، ومما يزيد اهتمامي بها، هو مواءمتها الناجحة والماهرة بين  متطلبات عصر متقلب، ومحيط إقليمي ودولي لا يرحم، ومقتضيات موقع خاص عند فوهة البراكين والممرات الدولية الحساسة، وتعلق أبدي بقيم وتقاليد الجيرة الطيبة.
تلك هي الكويت التي في خاطري.

* محمد ولد حمدو
كاتب وصحفي موريتاني

شارك المقال :

Share on facebook
Share on pinterest
Share on twitter
Share on reddit

أضف تعليقك

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم‬.