آفاق عربية بلا حدود

صحيفة الافق العربي الالكترونية
-- رقم الترخيص 2020/410 --

23 يوليو .. نهضة عمان .

متابعة..

[٢٣/‏٧ ١٠:٠٥ ص] والله غالب على امره: في ذكرى يوم الثالث والعشرين من يوليو 1970م وفي كلمة موجهة للشعب العماني ” كان بالأمس ظلام ولكن بعون الله غدًا سيشرق فجر جديد على عُمان وأهلها “، نعم إنه يوم أشرق فيه تاريخ أمة صاغَهُ القدر لبداية عصر النهضة العمانية المباركة، الذي أطل، فتنادى الشعر “عُمان اسعَدِي فأنت السُعدُ والسَعدُ “، وتأخذني الملحمة الشعبية في مسقط حاضرة عُمان التي تزاحمت بجبالها الصماء ولم يكن بها موطئ تطأهُ أقدام الرجال المتزاحمين، وكأنها موقعة يتدافعون نحوها بشغف ولكن بحب التي يحتضنها قصر العلم العامر مقر الحكم السلطاني.
ويستذكر التاريخ الموقف كيف هب العمانيون بجموع غفيرة يحملون الأرواح على أكفهم؛ لفتح مسقط في سنة 1650م . وما أشبه اليوم بالبارحة حين تسارعت الخُطى شيبًا وشُبانا بأهازيج مدوية تعج بها الطرقات من الباب الكبير الذي كتب في أعلاه ” جُدد بأمر السلطان سعيد بن تيمور سلطان مسقط وعُمان وجوادر وظفار”، والألسن تغرد والحناجر تهتف بمقدم سُلطان النهضة العُمانية، وتتشنف الآذان بفنون الرزحة المختلفة مع هدير طبول الكاسر والرحماني والمرواس والجم (البرغوم)، بصقيع شتى أنواع الفنون المغناة على الإيقاعات، وتصدح حناجر الأشاوس من أخوان شمه متوشحين الخناجر والمحازم والمشرفيات تلتصق على أكتفهم جموع مستبشرة وهي تسير “تخطف”، عابرة بوابة مسقط التي ستبقى من هذا اليوم مشرعة.

وقد أتى مقدم السلطان قابوس بن سعيد إعلانا لعهد سُلطاني جديد في يوم عيد جمع الأعياد كلها من تاريخ عصر النهضة العُمانية حيث تغنى الشعراء ” عُمان أسعدي إنا ضمنا لك السعدا ، وطوفي بآفاق العُلا كوكبًا فردًا، عُمان وما أحلى عُمان بمسمعي، تزف بها الأفواه في خاطري شهدًا “
تظل ذكريات تاريخ 23 يوليو1970م الذي تولى فيه السلطان الراحل مقاليد الحكم في عُمان، يوم سعيد في نفوس كل معاصر للحكم، امتدت مسيرتها المباركة، وفي 18/11/1972م خاطبنا السُلطان عن همومه ” كان علينا أن نبتدئ من واقعنا، وهذا الأساس هو الشعب وقد سلكنا مختارين أصعب السبل لنخرج به من عزلته ونأخذ بيده إلى طريق العزة والكرامة … وربطه ربطًا وثيقًا بالأرض؛ ليشعر بعمق الوطنية ومدى التجاذب بين الإنسان العُماني وبين أرض عُمان الطيبة …”.
إنها حقبة مجيدة مسطرة في جبين التاريخ الحديث، ونعود بالذاكرة التي تناقلتها وسجلتها الوقائع على مطار بيت الفلج – يقع بين روي ومطرح – عند قلعتها التاريخية، وهي مقر وزارة الدفاع العُمانية وقاعدة عسكرية تُنبِئك عن تاريخ أسرة شيدتها، وهمم سطرتها بعرق السواعد الفذة عن تاريخ عُمان الحديث، فمنذ أن جثمت الطائرة المقلة لجلالته وهي تحمل في جنباتها بُشرى الخير، وحين تناهت أصوات الشعب الواقف عند سياج المطار تهتف بقدوم الخير الواعد، حين لامست قدما السُلطان أرض المطار فقد كانت أول نظرة يشاهد فيها مدينة عُمانية غير مدينة صلالة، إنها من هنا كانت البداية التاريخية لبناء النهضة العُمانية باستقبال حافل من جموع المواطنين مهنئين بمقدم رُبان سفائن محمل الخير والسَعد لعُمان .
أن تبني بلدًا مترامي الأطراف مع صعوبة التضاريس الجُغرافية، أهله سادة الشرق أرغمه غدر الزمان أن يعيش في معزل عن كنف العيش الرغيد؛ بسبب الظروف الاقتصادية التي مرت بها عُمان، فلم تكن آثار نعمة النفط التي يعيشها غيرهم قد بدأت تدب على السلطنة. إنها مهمة في غاية الصعوبة والدولة بحاجة لتنمية شمولية، وفي ذات الوقت فبعد أن وحد الدولة السُلطان سعيد بن تيمور سلطان مسقط وعُمان أصبحت تواجه تحديا جديدا تمثل في ثورة التمرد الماركسي في جبال ظفار من جنوب الوطن.
ومن باب قواعد العدل والإنصاف أن نذكر بأن موارد الدولة المالية كانت شحيحة جدًا، وفي وضع اقتصادي حرج فلم تكن السلطنة تملك موارد مالية قبل أن يتدفق النفط ويبدأ تصدير أول شحنة من النفط في 27/7/1967م، حيث كانت قبل ذلك تعتمد في مواردها على القروض والجمارك والزكاة فقط، في دولة لم يكن بها حتى العام 1970م مرافق عامة سوى ثلاث مدارس ابتدائية (المدرسة السعيدية) في كل من مسقط ومطرح وصلالة، ولم تحظَ بمستشفيات حديثة، سوى مستشفى ولجات والنساء والولادة (السعادة) بمسقط ومستشفى مطرح وعيادات صحية بالولايات، ولم يكن هناك طرق مرصوفة بالأسفلت إنما طرق إسمنتية من مسقط إلى مطرح عند مدخل بوابة بيت الفلج، وكان أثر الدخل من النفط بدأ بصورة ضئيلة حيث وقع السُلطان سعيد على تنفيذ ميناء مطرح (السلطان قابوس) في المنطقة البحرية “غربق” والتخطيط؛ لتشييد طريق بحري يربط مطرح بمسقط (الكورنيش)، وطريق مسقط صحار حيث تم التوقيع مع شركة “استراباك” الألمانية مع تأجيل التنفيذ حتى موازنة العام 1971م.
لقد كان التنظيم الإداري للدولة قبل 23 يوليو 1970م بسيط جدًا، يتمثل بالدفاع والمالية التي يتولاها السُلطان وممثل السُلطان ومحافظ العاصمة مسقط السيد شهاب بن فيصل وناظر الشؤون الداخلية السيد أحمد بن إبراهيم، ودائرة الجمارك ودائرة الجوازات ودائرة التحسينات المعنية بالشؤون البلدية والصحية وصيانة الطرق والكهرباء والمياه. ووظيفة الخازن التي تولاها محمود بن محمد بن مراد الرئيسي. ودائرة المعارف (التعليم) وقد أشار السُلطان سعيد في خطابه المكتوب الموجه للشعب عام 1968م تشكيل مجلس للإعمار وأمام هذا الوضع المالي المتأزم وبعد أن استلم المغفور له السُلطان قابوس الحكم كان الخطاب في 18/11/1972م موجها عن الوضع الاقتصادي ” وإذا كان دخلنا من البترول متواضعًا بالنسبة لاحتياجاتنا وظروف بلادنا فإننا والحمد لله أقوياء بإيماننا بالله والعمل ” هذه هي عزائم الرجال.

السُلطان قابوس بن سعيد -رحمه لله- قاد ملحمة 23 يوليو، وكانت تنتظره مهام جسام ترمي بثقلها الكبير على كاهله وعنفوان شبابه، لكنه كان متعطشًا أن يبني دولة، ويستنهض الرجال من سبات غفوة الزمن، فكان نعم السُلطان القائد والأب الحنون والأستاذ المعلم والمناضل المغوار والمرشد الملهم، فقد شمر عن سواعده من لفحة الشمس الحارقة يسانده أبناء شعب عُمان الوفي، ونستذكر في ذلك ” بثلاث وعشرين يوليو قد حطم أصفادًا. وأزاح ظلامًا عنا ولونا بالمجد تهادا صافحنا الفجر بأجفان ورفعنا الأعناق صعادًا ومحونا كل فسادٍ وفرحنا شعبًا وبلادًا…” حيث تنادى الركب من أبناء الوطن المغتربين بالعودة إلى أحضان الوطن الغالية؛ من أجل البناء والتعمير بدعائم راسخة لنهضة أمة قسى عليها الزمن، فكان أول من لبى نداء الوطن السيد طارق بن تيمور فأصبح أول رئيس للوزراء في عهد النهضة، وهكذا تغنى ” هاتف البشرى دعانا فاستجبنا مسرعين ، وطوينا الأرض سعيًا في ركاب الخالدين … لا ينال المجد إلا من له عزم متين “.
ومن نافلة القول أن نستذكر للتاريخ حين خاطب السُلطان الأمة لإيمانه الراسخ أن بناء الإنسان نحو المستقبل يبدأ بالتعليم، فنادى فينا في ظل ظروف اقتصادية وبتحد كبير ” سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل الشجر”، والتركيز على جوانب التعليم غاية في ذاتها للوصول إلى الهدف، وهكذا بدأنا العلم والمعرفة من ظل الشجر إلى مدارس قامت على سعف النخيل، يظل المتعلمون حتى وصلنا إلى مبان حديثة في كل ربوع الوطن يعلمنا الدهر بعزة وكرامة، وقد تحققت طموحات القائد وبلغت منتهى مرادها بعد أن كان همه الأول بناء الإنسان والوطن بِعَرقِ جبين أبنائه، جيل قادر على تحمل المسؤولية، وحمل الأمانة لرغد العيش، ينظر للمستقبل بعزة وأنفة العمانيين وهكذا كما أراد لها السلطان قابوس” بناء دولة عصرية حديثة ” فقد سبر أرض عُمان في أغوارها وجاب مشارب رحاب سهولها وجبالها؛ ليلبي مطالب الشعب مع رغبة القائد نحو التغيير والمحافظة على إرث الحضارة العُمانية، كما عود أسلافه من السادة السلاطين والأئمة أجدادنا وآباءنا، فكان السُلطان الأب الحنون الدم الدافق في الشرايين، والمسمى الذي سكن في أعماق نفوس الشعب فواصل البناء الليل بالنهار، يستقصي الحوائج ويسأل ليلبي المراد دون أن تعلم يسراه ما تنفقه يمينه محليًا وخارجيًا، فلم يبخل بشيء حتى من ماله الخاص، يتابع ويلبي الرغبات.

لقد كان السُلطان قابوس أمة في ذاتها، فريدًا في مكنونها، يحمل بين حناياه وفي أفكاره السلام والوئام والمحبة، يسلب بخواطره النفوس، فقال قولته ” عُمان هي غايتنا ومرادنا وكل الشعب العُماني أبنائي”، فنعم الأب القائد المظفر نستذكر حكمته والركون لله تعالى في مشيئته ومقدرتهً ” ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيء لنا من أمرنا رشدا “.
بتاريخ 10/1/2020 م وكما هي سنة الله في خلقه لقد ودعنا من عشقته القلوب ليكون في رحمة الرحمن ” في مقعد صدق عند مليك مقتدر”، أتى القدر ليسترد الله أمانته من الأمة العُمانية؛ ليستريح من عناء العمل ويترجل الفارس عن صهوة فرس المجد، ويرخي اللجام عن زمام دفة سفائن سفر الحياة التي قادها على مدى خمسين عامًا إلا نيفا، فبكته الأمة بحرقة الأعماق، ورثته كل الأمهات العُمانيات الماجدات ومن سكن هذه الأرض الطيبة، وأذرفت عيون الشيبة والشباب والجيل الصاعد الذي تربّى على ترديد النشيد السلطاني الذي تضمنت أبياته “يا عُمان نحن من عهد النبي أوفياء من كرام العربي أبشري قابوس جاء فلتباركه السماء فاسعدي والتقيه بالدعاء”.

إنها حقبة النهضة العُمانية لكنها للأمة العُمانية ليست النهاية لأن البناء مستمر، فجاءت وصيته لمجلس الحل والعقد ” … فإننا وبعد التوكل على الله ورغبة منا في ضمان استقرار البلاد نشير بأن يتولى الحكم السيد هيثم بن طارق؛ وذلك لما توسمنا فيه من صفات وقدرات تؤهله لحمل هذه الأمانة “، يسلم القائد دفة زمام القيادة لمن توسّم فيه الخير وهو القدر العظيم لهذا الوطن السُلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- وبايعت الأسرة المالكة الكريمة وأهل الحل والعقد والشعب بموروث حضاري، هكذا انعقدت البيعة المباركة بالطاعة للسلطان على المنشط والمكره، وفي العُسرِ واليُسر سُلطانًا لعمان وإمامًا للأمة، كما أراد المرحوم السُلطان قابوس في وصيته.
هذا النهج الذي اختطه السلف الصالح في عُمان، إنه نظام حكم منذ أن تولى في العام 1744م الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي، إنها مسيرة خير وعطاء لتاريخ ركب امتد مائتين وستة وسبعين عامًا ومستمر بإذن الله تعالى، ما حفظنا العهد بيننا في إرث حضاري مخطوط على صفحات التاريخ بأحرف من نور المجد والإبإء.
وبعد أن أكملت عُمان مرحلة البناء وعلى وقع تاريخ أمتها المجيد أصبحت عُمان كما أراد لها المغفور له السُلطان قابوس دولة على خارطة الكرة الأرضية، بقدر موروثها وحضارتها الضاربة في أعماق التاريخ وآفاقه لها صداقة وعلاقات مع جميع الدول إنها عُمان بلد المحبة والسلام.
نتذكر اليوم 23 يوليو مثل كل عام وعلى مدى تسعة وأربعين عامًا ونيف مضت ونحن نردد بصوت عال النشيد ” صوت للنهضة نادى. هبوا جمعًا وفرادى. قابوس للمجد تبادى. فابنوا معه الأمجادا. يا أبناء عمان الأجوادا”.
ولا يفوتنا ونحن نستذكر هذه المناسبة إلا أن نتوجه بالدعاء إلى الله أن ينزل المغفور له بإذن الله تعالى السُلطان قابوس مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا. وندعو الله أن تقر عيناه في الجنة بسلام، فإن خير من استخلف لعُمان وشعبها القوي الأمين قائدًا لنا، يكمل مسيرة النهضة يحمل مشاعل البناء نحو مستقبل مشرق بإذن الله تعالى نسير خلف القيادة الحكيمة لمولانا الواثق بالله جلالة السُلطان هيثم بن طارق -حفظه الله- تمضي مسيرة عُمان تمتطي صهوة المجد على خطى النهج القويم. نستذكر اليوم بتفاؤل التواقين نحو المستقبل إذ وجه جلالته في خطابه “إن الانتقال بعُمان إلى مستوى طموحاتكم وآمالكم في شتى المجالات سيكون عنوان المرحلة القادمة بإذن الله تعالى “، نعاهد السلطان بأننا على العهد والبيعة ماضون في مسيرة بعد التوكل على الله تعالى فإننا راسخون في عهدنا وولائنا مثل رسوخ الجبال الشم الصلدة، نسير بهمة وقادة وبعنفوان شباب الأمة نحو العلا والسلام ونحفظ الذمم ونذود عن حمى الوطن.
ربنا احفظ وطننا عُمان آمنًا، ووفق بالخير سُلطاننا الهمام وسدد خُطاه بالخير، اللهم آمين.

* ياسر بن عبيد السلامي

مدير عام مكتب حفظ البيئة في ديوان البلاط السلطاني

شارك المقال :

Share on facebook
Share on pinterest
Share on twitter
Share on reddit

أضف تعليقك

اترك تعليقًا

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

من شروط النشر : عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الإلهية، والابتعاد عن التحريض العنصري والشتائم‬.